الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التبر المسبوك في نصيحة الملوك (نسخة منقحة)
المثال الثاني من ذلك: ومن سحرها أنها تظهر لك محبة لتعشقها، وتريك أنها لك مساعدة وأنها لا تنتقل عنك إلى غيرك ثم تعود عدوة لك على غفلة. ومثلها مثل امرأة فاجرة خداعة للرجال حتى إذا رأوها عشقوها ودعتهم إلى بيتها فاغتالتهم وأهلكتهم.نكتة: رأى عيسى عليه السلام الدنيا في بعض مكاشفاته وهي على صورة عجوز هرمة فقال لها: كم كان لك من زوج؟ فقالت: لا يحصون كثرة، فقال عيسى: ماتوا أم طلقوك؟ فقالت: بل أنا قتلتهم وأفنيتهم، فقال: يا عجبًا ومن دواهيك هذا صنعك بأهلك وهم فيك راغبون، وعليك يقتتلون، وبمن مضى لا يعتبرون.المثال الثالث من ذلك: ومن سحرها أنها تزين ظاهرها بمحاسنه، وتخفي محنتها وقواتلها في باطنها، لتغر الجاهل بما يرى من ظاهرها ومثلها كمثل عجوز قبيحة المنظر تخفي وجهها وتلبس حسن الثياب وتتزين وتتجمل لتفتن الخلق من بعد فإذا كشفوا عنها غطاءها وخمارها، والقوا عنها إزارها ندموا على محبتها لما شاهدوه من فضائح، وعاينوه من قبائحها. وقد جاء في الخبر أن الدنيا يؤتى بها يوم القيامة في صورة عجوز قبيحة مشوهة زرقاء العين وحشة الوجه قد كشّرت عن أنيابها، فإذا رآها الخلائق قالوا نعوذ بالله من هذه القبيحة المشوهة، فيقال لهم هذه الدنيا التي كنتم عليها تتحاسدون ولأجلها كنتم تتحاقدون وتسفكون الدماء بغير حق وتقطعون أرحامكم وتغترون زخرفها، ثم يؤمر بها إلى النار فتقول: إلهي أين أحبابي فيؤمر بهم فيلقون في نار جهنم.المثال الرابع من ذلك: إن الإنسان يحسب كم كان في الأزل قبل أن يوجد في الدنيا وكم يكون مدة عدمه بالموت وكم قدر هذه المدة التي بين الأبد والأزل وهي مدة حياته في الدنيا، فيعلم أن مثال الدنيا كطريق المسافر أوله المهد، وآخره اللحد، وفيما بينهما منازل معدودة، وأن كل سنة كمنزل وكل شهر لفرسخ، وكل يوم كميل، وكل نفس كخطوة وهو يسير دائمًا فيبقى لواحد من طريقه فرسخ ولآخر أكثر وهو قاعد ذاهل، وساكن غافل، كأنه مقيم لا يبرح وقد اشتغل بتدبير أعمال لا يحتاج إليها بعد عشر سنين وربما يحصل بعد عشرة أيام تحت التراب.المثال الخامس من ذلك: اعلم أن مثل الدنيا تتحف أهلها فيها بشهواتهم ولذاتهم من الأمور الفضائح التي يشاهدونها في الآخرة كمثل إنسان أكل فوق حاجته من طعام حلو سمين إلى أن هاض هاضت معدته فرأى فضيحته من هلاك معدته ونتونة نفسه وكره برازه وحاجته فندم بعد ذهاب لذته وبقاء فضيحته من هلاك معدته. وكذلك كلّما ألف الإنسان لذات الدنيا وتبين له ذلك كانت عاقبته أصعب، ويبتلي بمثل ذلك عند نزعه خروج روحه كمن كان له نعم كثيرة وذهب وفضة وجوار وغلمان وكروم وبساتين وفارقه كان ألم فراق روحه عليه أصعب ممن ليس له إلا القليل فإن ذلك الألم والعذاب لا يزول بالموت بل يزيد لأن تلك المحبة صفة القلب والقلب بحاله لا يموت.المثال السادس من ذلك: اعلم أيها السلطان أن أمور الدنيا أول ما تبدو يظنها الإنسان قريبة مختصرة وأن شغلها لا يدوم،وربما كان من بعض أشغالها وأحوالها أمر يتسلسل منه أمر وينفق فيه بضاعة العمر، فإن عيسى عليه السلام قال: طالب الدنيا كشارب ماء البحر كلما ازداد شربًا ازداد عطشًا ولهبًا فلا يزال يشرب حتى يهلك ولا يروى. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كما لا يمكن من خاض البحر أن لا يناله البلل كذلك لا يمكن من دخل في أمور الدنيا أن لا يتدنس».المثال السابع من ذلك: مثل من حصل في الدنيا كمثل ضيف دُعي إلى مائدة ومن عادة المضيف أن يزين داره للأضياف ويدعو إليها قومًا بعد قوم، وفوجًا بعد فوج، ويضع بين يدي أضيافه طبقًا من ذهب مملوءًا بالجوهر ومجمرة من فضة من عود وبخور ليتطيبوا ويتبخروا وينالهم طيب رائحتها، ثم يعاودون الطبق والمجمرة بحالهما لمالكهما ليدعو غيرهم كما دعاهم. فمن كان عاقلًا عارفًا برسم الدعوات وضع من ذلك البخور على النار وتطيب وانصرف ولم يطمع أن يتناول الطبق والمجمرة وتركهما بطيبة من قلبه، وشكر لصاحب البيت وربه. ومن كان أبله أحمق توهم أن ذلك الطبق والمجمرة قد أعدا له وهم يريدون أن يهبوهما له فلما همّ بالخروج أخذ الطبق والمجمرة فلم يمكن من الخروج بهما واستعادوهما منه فضاق صدره وتعب قلبه، وطلب الإقالة إذ ظهر ذنبه، فالدنيا كمثل طريق المسافر ودار الضيافة ليتزودوا منها لطريقهم ولا يطمعوا في الدار.المثال الثامن: مثل أهل الدنيا واشتغالهم بأشغالهم، واهتمامهم بأحوالها، ونسيان الآخرة وإهمالها كمثل قوم ركبوا مركبًا في البحر فعدلوا إلى جزيرة لأجل الطهارة وقضاء الحاجة، فنزلوا إلى الجزيرة والملاّح يناديهم لا تطيلوا المكث لئلا يفوت الوقت ولا تشتغلوا بغير الوضوء والصلاة فإن المركب سائر، فمضوا وتفرّقوا في الجزيرة وانتشروا في نواحيها، فالعقلاء منهم لم يمكثوا وشرعوا في الطهارة وعادوا إلى المركب فأصابوا الأماكن خالية فجلسوا في أطهر الأماكن وأوفقها وأرفعها.ومنهم قوم نظروا إلى عجائب تلك الجزيرة ووقفوا يتنزهون في زهرتها وثمارها، وروضاتها وأشجارها؛ ويسمعون طيب ترنّم أطيارها، ويتعجبون من حصبائها الملونة وأحجارها، فلما عادوا إلى المركب لم يجدوا موضعًا ولا رأوا متسعًا فقعدوا في أضيق مواضعه وأظلمها.ومنهم قوم لم يقنعوا بالنزهة ولم يقتصروا على الفرجة لكنهم جمعوا من تلك الحصباء الملونة ثم حملوها معهم إلى المركب فلم يجدوا مكانًا ولا فرجة فقعدوا في أضيق المواضع وحملوا ما استصحبوا من تلك الأحجار على أعناقهم فلم يمض إلا يوم أو يومان حتى تغيرت ألوان تلك الأحجار واسودت وفاح منها أكره رائحة ولم يجدوا مخلصًا من الزحام ليلقوا ثقلها عن أعناقهم فندموا على ما فعلوا، وحصلوا بثقل الأحجار على أعناقهم إذ كانوا بتحصيلها اشتغلوا.ومنهم قوم وقفوا مع عجائب تلك الجزيرة وتنزهوا، وفي الرجوع لم يتفكروا حتى سار المركب فبعدوا عنه وانقطعوا في أماكنهم وتخلفوا إذ لم يصيحوا إلى المنادي ولم يسمعوا، فمنهم من أكلته السباع وتنهشه الضباع.فالقوم المتقدمون هم القوم المؤمنون المتقون، والقوم المتخلفون الهالكون هم الكفار المشركون، الذين نسوا الله ونسوا الآخرة سلموا كليتهم إلى الدنيا وركنوا إليها كما قال عز من قائل: {ذلك بِأنهم اِستحَبُوا الحَياة الدُنيا على الآخرةِ} أي ركنوا إليها. وأما الجماعة المتوسطون فهم العصاة الذين حفظوا أصل الإيمان لكنهم لم يكفوا أيديهم عن الدنيا فمنهم من تمتع بغناه ونعمته ومنهم من تمتع مع فقره وحاجته إلى أن غلبت أوزارهم، وكثرت أوساخهم وأوضارهم.المثال التاسع: روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبا هريرة أتريد أن أريك الدنيا؟» قلت: نعم يا رسول الله. فأخذ بيدي وانطلق حتى وقف بي على مزبلة فيها رؤوس الآدميين وبقايا عظام نخرة وخرق قد تمزقت وتلوثت بنجاسات الآدميين فقال:«يا أبا هريرة هذه الرؤوس التي تراها كانت مثل رؤوسكم مملوءة من الحرص والاجتهاد على جمع الدنيا. كانوا يرجون من طول الأعمار ما ترجون، وكانوا يجدون في جمع المال وعمارة الدنيا كما تجدون، فاليوم قد تغيرت عظامهم وتلاشت أجسامهم كما ترى، وهذه الخرق كانت أثوابهم التي كانوا يتزينون بها وقت الرعونة والتجمل والتزين قد ألقتها الريح في النجاسات، وهذه النجاسات كانت أطعمتهم اللذيذة التي كانوا يحتالون في تحصيلها وينهبها بعضهم من بعض قد القوها عنهم بهذه الفضيحة التي لا يقربها أحد من نتنها؛ فهذه جملة أحوال الدنيا كما تشاهد وترى فمن أراد أن يبكي علي الدنيا فليبكِ فإنها موضع البكاء». قال أبو هريرة: فبكى جملة الحاضرين.المثال العاشر: كان في زمن عيسى عليه السلام ثلاثة سائرين في طريق فوجدوا كنزًا فقالوا: قد جعنا فليمضِ واحد منا ويبتاع لنا طعامًا. فمضى أحدهم ليأتيهم بطعام فقال: الصواب أن أجعل لهما سمًا قاتلًا في الطعام ليأكلا منه فيموتا وانفرد بالكنز دونهما، ففعل ذلك وسم الطعام. واتفق الرجلان الآخران أنه إذا وصل إليهما قتلاه وانفردا بالكنز دونه. فلما وصل ومعه الطعام المسموم قتلاه وأكلا من الطعام فماتا. فاجتاز عيسى عليه السلام بذلك الموضع فقال للحواريين: هذه الدنيا كيف قتلت هؤلاء الثلاثة وبقيت من بعدهم، ويل لطلاب الدنيا من الدنيا. |